حدّثني محمّد بن الحسن، قال: حدّثنا علي بن حسان الواسطي، عن عمّه عبد الرحمن بن كثير الهاشمي، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليه السلام قال: قام رجل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام يقال له همّام - وكان عابداً- فقال له: يا أمير المؤمنين صِف لي المتّقين حتى كأنّي أنظر إليهم، فتثاقل أمير المؤمنين صلوات الله عليه في جوابه ثمّ قال عليه السلام: "ويحك يا همّام اتّق وأحسن، فإنّ الله مع الّذين اتّقوا والذين هم محسنون".
فقال همام: يا أمير المؤمنين أسألك بالذي أكرمك وبما خصّك به، وحباك، وفضّلك بما أنالك، وأعطاك، لما وصفتهم لي، فقام أمير المؤمنين صلوات الله عليه قائماً على قدميه فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ وآله وسلّم، ثم قال عليه السلام:"أمّا بعد فإنّ الله عزّ وجلّ خلق الخلق حيث خلقهم، غنيّاً عن طاعتهم، آمناً من معصيتهم، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه منهم، ولا تنفعه طاعة من أطاعه، وقسم بينهم معائشهم، ووضعهم من الدنيا مواضعهم، وإنّما أهبط الله آدم وحوّاء من الجنّة عقوبة لما صنعا حيث نهاهما فخالفاه، وأمرهما فعصياه.
فالمتّقون فيها أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبَسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، خضعوا لله بالطاعة فبهتوا غاضّين أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم، واقفين أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء، كالذي نزلت بهم في الرخاء، رضاً منهم عن الله بالقضاء، ولولا الآجل الّذي كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب.
عظم الخالق في أنفسهم، وصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة،
وأجسادهم نحيفة، وحوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، ومؤنتهم من عظيمة.
صبروا أياماً قليلة قصاراً أعقبتهم راحة طويلة، بتجارة مربحة، يسّرها لهم ربّ كريم، أرادتهم الدنيا ولم يُريدوها، وطلبتهم فأعجزوها.
أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلاً، يحزنون به أنفسهم، ويستبشرون به وتهيج أحزانهم بكاء على ذنوبهم، ووجع كلوم جوانحهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها بمسامع قلوبهم وأبصارهم، فاقشعرّت منها جلودهم، ووجلت منها قلوبهم، وظنّوا أنّ صهيل جهنّم وزفيرها وشهيقها في أصول آذانهم، وإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت أنفسهم إليها شوقاً، فظنّوا أنّها نصب أعينهم، جاثين على أوساطهم يمجّدون جباراً عظيماً، مفترشين جباههم وأكفّهم وأطراف أقدامهم وركبهم، تجرى دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم.
وأمّا النهار فحلماء علماء، بررة أتقياء، قد براهم الخوف (بري القداح - خ ل) فهم أمثال القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، أو يقول قد خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم، إذا فكّروا في عظمة الله وشدّة سلطانه مع ما يخالطهم من ذكر الموت وأهوال القيامة، فزَّع ذلك قلوبهم وجاشت حلومهم، وذهلت قلوبهم (عقولهم - خ ل)، وإذا استفاقوا بادروا إلى الله بالأعمال الزكية.
لا يرضون لله أعمالهم بالقليل، ولا يستكثرون له الجزيل، فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إن زكّي أحدهم خاف ممّا يقولون، وقال انا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم بنفسي منّي، اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً ممّا يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون، فإنّك علاّم الغيوب، وستّار العيوب.
ومن علامة أحدهم أنّك ترى له قوّة في دين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً على العلم، وكيساً في رفق، وشفقة في نفقة، وقصداً في غناء، وخشوعاً في عبادة، وتجمّلاً في فاقة، وصبراً في شدّة، ورحمة للجهود، واعطاء في حق، ورفقاً في كسب، وطلباً للحلال، ونشاطاً في الهدى، وتحرّجاً عن الطمع، وبرّا في استقامة، وإغماضاً عند شهوة.
لا يغرّه ثناء من جهله، ولا يدع احصاء ما قد عمله، مستبطئاً لنفسه في العمل، يعمل الأعمال الصالحة، وهو على وجل، يمسى وهمّه الشكر، ويصبح وشغله الذكر، يبيت حذراً، ويصبح فرحاً، حذراً لما حذر من الغفلة، وفرحاً لما أصاب من الفضل والرحمة،إن استصعب عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما إليه ضرّه، وفرحه فيما يخلد ويطول، وقرّة عينه فيما لا يزول، ورغبته فيما يبقى، وزهادته فيما يفنى.
يمزج الحلم بالعلم، ويمزج العلم بالعقل، تراه بعيداً كسله، دائماً نشاطه قريباً أمله، قليلاً زلله، متوقّعاً أجله، خاشعاً قلبه، ذاكراً ربه، خائفاً ذنبه، قانعاً نفسه، متغيّباً جهله، سهلاً أمره، حريزاً دينه، ميّتة شهوته، كاظماً غيظه، صافياً خلقه، آمناً منه جاره، ضعيفاً كبره، ميّتاً ضرّه، كثيراً ذكره، محكماً أمره.
لا يحدث بما يؤتمن عليه الأصدقاء، ولا يكتم شهادته للأعداء، ولا يعمل شيئاً من الحق رياءاً، ولا يتركه حياءاً، الخير منه مأمول، والشرّ منه مأمون، إن كان في الغافلين كتب من الذاكرين، وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين.
يعفو عمّن ظلمه، ويعطى من حرمه، ويصل من قطعه، لا يعزب حلمه، ولا يعجل فما يريبه، ويصفح عمّا قد تبين بعيد (بعد خ ل) جهله، ليّناً قوله، غائباً مكره (منكره خ ل)، قريباً معروفه، صادقاً قوله، حسناً فعله، مقبلاً خيره، مدبراً شرّه، فهو في الهزاهز وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، لا يحيف على من يبغض ولا يأثم على من لا يحب، لا يدّعي ما ليس له، ولا يجحد حقاً هو عليه، يعترف بالحق أن يشهد عليه، ولا يضيع ما استحفظ (لا ينسى ما ذكره خ) ولا ينابز بالألقاب، ولا يبغي على حد، ولا يهمّ بالحسد، ولا يضرّ بالجار، ولا يشمت بالمصائب، سريع إلى الصلوات، مؤدّ للأمانات، بطيء عن المنكرات، يأمر بالمعروف، وينهى المنكر، لا يدخل في الأمور بجهل، ولا يخرج من الحقّ بعجز.
إن صمت لم يغمّه صمته، وإن نطق لم يقل خطأ، وان ضحك لم يعد صوته سمعه، قانعاً بالذي قدّر له، ولا يجمع به الغيظ، ولا يغلبه الهوى، ولا يقهره الشحّ، ولا يطمع فيما ليس له، يخالط الناس ليعلم، ويصمت ليسلم، ويسأل ليفهم، ينصت ليعجب به، ولا يتكلّم ليفخر على من سواه، ان بُغي عليه صبر، حتى يكون الله هو الذي ينتقم له.
نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من شرّه، بعد من تباعد عنه بغض ونزاهة، ودنو من دنا منه لين ورحمة، فليس تباعده بكبر ولا عظمة، ولا دنوّه بخديعة ولا خلابة، بل يقتدى بمن كان قبله من أهل الخير، وهو إمام لمن خلقه أهل البرّ.
(قال): فصعق همّام صعقة كانت نفسه فيها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أما والله لقد كنت أخافها عليه، وأمر به فجُهّز وصلّى عليه، وقال: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها.
فقال قائل: فما بالك أنت يا أمير المؤمنين؟! قال عليه السلام: "ويلك إنّ لكلًّ أجلاً لن يعدوه، وسبباً لا يجاوزه، فمهلاً لا تعد فانّما نفث لسانك الشيطان".